الثلاثاء، 4 يناير 2011

ما هي الحقيقة؟ وما هو الواقع؟


ما هي الحقيقة؟ وما هو الواقع؟
حواسنا تقول أن الشمس تدور كل يوم حول الأرض، ولكن هذا الواقع الساذج لم يستطع الوقوف على قدميه أمام البحث، وثبت أن الأرض هي التي تدور حول الشمس، وبالمثل يبدو لنا القمر كل ليلة وكأنه أكبر كواكب السماء، ومع ذلك فهو في الحقيقة أصغرها
وحواسنا تدرك المادة على أنها شيء جامد متماسك، لكن الحقيقة أن المادة مفرغة مخلخلة، وأشد المواد صلابة كالحديد مخلخل في داخله ومؤلف من ملايين الذرات المنثورة في فراغ أثيري، وبين كل ذرة وأخرى مسافة كبيرة خلاء، والذرة نفسها مؤلفة من هباء مخلخل، نواة تدور حولها كهارب في فلك أثيري خلو من أي شي، ولكن العين لا ترى هذه المسام الواسعة، ولا ترى الذرات على حقيقتها وهي متباعدة عن بعضها البعض، وإنما ترى كتلة مصمتة من الحديد
الأعجب من هذا إنه ثبت أن ذرات المادة يمكن تحطيمها وسحقها وطحنها وكبسها في حيز صغير جداً، وهذا هو ما يحدث في باطن النجوم الملتهبة، فالذرات في باطن النجوم تتحطم وتنسحق من فرط الحرارة ثم يتم كبسها تحت ضغط هائل إلى حيز صغير جداً بدرجة أن المتر المكعب يحتوي على عدة ملايين من أطنان المادة المضغوطة.
وإذا أمكن كبس الكرة الأرضية وسحقها بهذه الطريقة فإنه يصبح بالإمكان إن توضع كلها في كيس متوسط الحجم، فالدلالة الواقعية للحجم أصبحت هي الأخرى دلالة كاذبة.
والإحساس بالوزن هو الآخر إحساس كاذب، لأنه في الحقيقة ليس إحساساً بوزن الشيء، وإنما هو إحساس بجذب الأرض لهذا الشيء بدليل أن الأوزان كلها تصبح خفيفة جداً على سطح القمر، لأن جاذبية القمر ضعيفة، وتصبح ثقيلة جداً على سطح الشمس، لأن جاذبية الشمس هائلة.
والنور الذي يبدو لنا أنه شيء لطيف روحاني بلا وزن، هو في حقيقته ذو وزن، وقد ثبت بالقياس أن الشمس تفقد من وزنها أربعة ملايين طن في الثانية تتحول كلها إلى أشعة ضوئية، ومعنى هذا أن وزن النور الذي ينصب من الشمس كل ثانية يماثل ما ينصب من الماء من شلالات نياجرا بـ700 مرة.
ومنظر النجوم الذي يطالعنا في المساء، فيخيل إلينا أننا نشاهد فيه واقع النجوم كما هي لحظة الرؤية، هو في الحقيقة منظرها منذ ألوف السنين، لأن شعاع النور الذي نراها به قد أستغرق في رحلته في الفضاء ليصل إلى عيوننا ألوف السنين الضوئية، إنها مثل صورة بالبريد ضاعت في الطريق ومضى على تاريخها أعوام طويلة، إننا نشاهد كل ليلة في السماء منظراً قديما جداً تأخر وصوله، أما منظر النجوم كما تبدو اليوم فلن يراه إلا أحفاد أحفادنا، لأن الشعاع الذي أنطلق منها مازال أمامه ألوف السنين يقضيها مترنحاً في الفضاء حتى يصل إلى الأرض.
إن المحسوسات كما تأتينا في الواقع المادي كمرجع نهائي خطأ، لأن هناك آلف نوع من الواقع

[د. مصطفى محمود، ولد في 27 ديسمبر 1921 وتوفي في 31 أكتوبر 2009.]


.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق